الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **
اعلم أن الدنيا من عالم الملك والشهادة والآخرة من عالم الغيب والملكوت وأعني بالدنيا حالتك قبل الموت وبالآخرة حالتك بعد الموت فدنياك وآخرتك صفاتك وأحوالك يسمى القريب الداني منها دنيا والمتأخر آخرة. ونحن الآن نتكلم من الدنيا في الآخرة فإنا الآن نتكلم في الدنيا وهو عالم الملك وغرضنا شرح الآخرة وهي عالم الملكوت ولا يتصور شرح عالم الملكوت في عالم الملك إلا بضرب الأمثال ولذلك قال تعالى: " وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون " وهذا لأن عالم الملك نوم بالإضافة إلى عالم الملكوت ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا " وما سيكون في اليقظة لا يتبين لك في النوم إلا الأمثال المحوجة إلى التعبير فكذلك ما سيكون في يقظة الآخرة لا يتبين في نوم الدنيا إلا في كثرة الأمثال وأعني بكثرة الأمثال ما نعرفه من علم التعبير ويكفيك منه إن كنت فطناً ثلاثة أمثلة. فقد جاء رجل إلى ابن سيرين فقال: رأيت كأن في يدي خاتماً أختم به أفواه الرجال وفروج النساء. فقال: إنك مؤذن تؤذن في رمضان قبل طلوع الفجر قال: صدقت. وجاء آخر فقال: رأيت كأني أصب الزيت في الزيتون فقال: إن كان تحتك جارية اشتريتها ففتش عن حالها فإن أمك سبيت في صغرك لأن الزيتون أصل الزيت فهو يرد إلى الأصل فنظر فإذا الجارية كانت أمه وقد سبيت في صغره وقال له آخر: رأيت كأني أقلد الدر في أعناق الخنازير فقال: إنك تعلم الحكمة غير أهلها فكان ما قال والتعبير من أوله إلى آخره أمثال تعرفك طريق ضرب المثال وإنما نعني بالمثل أداء المعنى في صورة إن نظر إلى معناه وجده صادقاً وإن نظر إلى صورته وجده كاذباً فالمؤذن إن نظر إلى الصورة الخاتم والختم به على الفروج رآه كاذباً فإنه لم يختم به قط وإن نظر إلى معناه وجده صادقاً إذ صدر منه روح الختم ومعناه الذي يراد الختم له وليس للأنبياء أن يتكلموا مع الخلق إلا بضرب الأمثال لأنهم كلفوا أن يكلموا الناس على قدر عقولهم وقدر عقولهم أنهم في النوم والنائم لا يكشف له عن شيء إلا بمثل فإذا ماتوا انتبهوا وعرفوا أن المثل صادق ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن " وهو من المثال الذي لا يعقله إلا العالمون فأما الجاهل فلا يجاوز قدره ظاهر المثال لجهله بالتفسير الذي يسمى تأويلاً كما يسمى تفسير ما يرى من الأمثلة في النوم تعبيراً فيثبت لله تعالى يداً وإصبعاً - تعالى الله عن قوله علواً كبيراً. وكذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله خلق آدم على صورته " فإنه لا يفهم من الصورة إلا اللون والشكل والهيئة فيثبت لله تعالى مثل ذلك - تعالى الله عن قوله علواً كبيراً. من ههنا زل من زل في صفات إلهية حتى في الكلام وجعلوه صوتاً وحرفاً إلى غير ذلك من الصفات والقول فيه يطول وكذلك قد يرد في أمر الآخرة ضرب أمثلة يكذب بها الملحد بحمود نظره على ظاهر المثال وتناقضه عنده كقوله صلى الله عليه وسلم: يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح " فيثور الملحد الأحمق ويكذب ويستدل به على كذب الأنبياء ويقول: يا سبحان الله. الموت عرض والكبش جسم فكيف ينقلب العرض جسماً وهل هذا إلا محال ولكن الله تعالى عزل هؤلاء الحمقى عن معرفة أسراره فقال: " وما يعقلها إلا العالمون " ولا يدري المسكين أن من قال رأيت في منامي أنه جيء بكبش وقيل هذا هو الوباء الذي في البلد وذبح فقال العبر: صدقت والأمر كما رأيت وهذا يدل على أن هذا الوباء ينقطع ولا يعود قط لأن المذبوح وقع اليأس منه فإذن المعبر صادق في تصديقه وهو صادق في رؤيته وترجع حقيقة ذلك إلى أن الموكل بالرؤيا وهو الذي يطلع الأرواح عند النوم على ما في اللوح المحفوظ عرفه بما اللوح المحفوظ بمثال ضربه له لأن النائم إنما يحتمل المثال فكان مثاله صادقاً وكان معناه صحيحاً فالرسل أيضاً إنما يكلمون الناس في الدنيا وهي بالإضافة إلى الآخرة نوم فيوصلون المعاني إلى أفهامهم بالأمثلة حكمة من الله ولطفاً بعباده وتيسيراً لإدراك ما يعجزون عن إدراكه دون ضرب المثل فقوله: " يؤتى بالموت في صورة كبش أملح " مثال ضربه ليوصل إلى الأفهام حصول اليأس من الموت وقد جبلت القلوب على التأثر بالأمثلة وثبوت المعاني فيها بواسطتها ولذلك عبر القرآن بقوله: " كن فيكون " عن نهاية القدرة وعبر صلى الله عليه وسلم بقوله: " قلب المؤمن بي إصبعين من أصابع الرحمن " عن سرعة التقليب. وقد أشرنا إلى حكمة ذلك في كتاب قواعد العقائد من ربع العبادات فلنرجع الآن إلى الغرض فالمقصود أن تعريف توزع الدرجات والدركات على الحسنات والسيئات لا يمكن إلا بضرب المثال فلنفهم من المثل الذي نضربه معناه لا صورته. فنقول: الناس في الآخرة ينقسمون أصنافاً وتتفاوت درجاتهم ودركاتهم في السعادة والشقاوة تفاوتاً لا يدخل تحت الحصر كما تفاوتوا في سعادة الدنيا وشقاوتها ولا تفارق الآخرة في هذا المعنى أصلاً البتة فإن مدبر الملك والملكوت واحد لا شريك له. وسنته الصادرة عن إرادته الأزلية مطردة لا تبديل لها إلا أنا إن عجزنا عن إحصاء آحاد الدرجات فلا نعجز عن إحصاء الأجناس. فنقول: الناس ينقسمون في الآخرة بالضرورة إلى أربعة أقسام: هالكين ومعذبين وناجين وفائزين. ومثاله في الدنيا أن يستولي ملك من الملوك على إقليم فيقتل بعضهم فهم الهالكون ويعذب بعضهم مدة ولا يقتلهم فهم المعذبون ويخلى بعضهم فهم الناجون ويخلع على بعضهم فهم الفائزون. فإن كان الملك عادلاً لم يقسمهم كذلك إلا باستحقاق فلا يقتل إلا جاحداً لاستحقاق الملك معانداً له في أصل الدولة ولا يعذب إلا من قصر في خدمته مع الاعتراف بملكه وعلو درجته ولا يخلي إلا معترفاً له برتبة الملك لكنه لم يقصر ليعذب ولم يخدم ليخلع عليه ولا يخلع إلا على من أبلى عمره في الخدمة والنصرة ثم ينبغي أن تكون خلع الفائزين متفاوتة الدرجات بحسب درجاتهم في الخدمة وإهلاك الهالكين إما تحقيقاً بحز الرقبة أو تنكيلاً بالمثلة بحسب درجاتهم في المعاندة وتعذيب المعذبين في الخفة والشدة وطول المدة وقصرها واتحاد أنواعها واختلاقها بحسب درجات تقصيرهم فتقسم كل رتبة من هذه الرتب إلى درجات لا تحصى ولا تنحصر فكذلك فافهم أن الناس في الآخرة هكذا يتفاوتون فمن هالك ومن معذب مدة ومن ناج يحل في دار السلامة ومن فائز. والفائزون ينقسمون إلى من يحلون في جنات عدن أو جنات المأوى أو جنات الفردوس والمعذبون ينقسمون إلى من يعذب قليلاً وإلى من يعذب ألف سنة إلى سبعة آلاف سنة وذلك آخر من يخرج من النار كما ورد في الخبر وكذلك الهالكون الآيسون من رحمة الله تتفاوت دركاتهم وهذه الدرجات بحسب اختلاف الطاعات والمعاصي فلنذكر كيفية توزعها عليها. الرتبة الأولى: وهي رتبة الهالكين ونعني بالهالكين الآيسين من رحمة الله تعالى إذ الذي قتله الملك في المثال الذي ضربناه آيس من رضا الملك وإكرامه فلا تغفل عن معاني المثال وهذه الدرجة لا تكون إلا للجاحدين والمعرضين المتجردين للدنيا المكذبين بالله ورسله وكتبه فإن السعادة الأخروية في القرب من الله والنظر إلى وجهه وذلك لا ينال أصلاً إلا بالمعرفة التي يعبر عنها بالإيمان والتصديق والجاحدون هم المنكرون والمكذبون هم الآيسون من رحمة الله تعالى أبد الآباد وهم الذين يكذبون برب العالمين وبأنبيائه المرسلين إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون لا محالة وكل محجوب من محبوبه فمحول بينه وبين ما يشتهيه لا محالة فهو لا محالة يكون محترقاً نار جهنم بنار الفراق ولذلك قال العارفون: ليس خوفنا من نار جهنم ولا رجاؤنا للحور العين وإنما مطالبنا اللقاء ومهربنا من الحجاب فقط وقالوا من يعبد الله بعوض فهو لئيم كأن يعبده طلب جنته أو لخوف ناره بل العارف يعبده لذاته فلا يطلب إلا ذاته فقط فأما الحور العين والفواكه فقد لا يشتهيها وأما النار فقد لا يتقيها إذ نار الفراق إذا استولت على قلبه ربما غلبت النار المحرقة للأجسام فإن نار الفراق نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة ونار جهنم لا شغل لها إلا مع الأجسام وألم الأجسام يستحقر مع ألم الفؤاد ولذلك قيل: وفي فؤاد المحب نار جوى أحر نار الجحيم أبردها ولا ينبغي أن تنكر هذا في عالم الآخرة إذ له نظير مشاهد في عالم الدنيا فقد رؤي من غلب عليه الوجد فغدا على النار وعلى أصول القصب الجارحة القدم وهو لا يحس به لفرط غلبة ما في قلبه وترى الغضبان يستولي عليه الغضب في القتال فتصيبه جراحات وهو لا يشعر بها في الحال لأن الغضب نار في القلب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الغضب قطعة من النار " واحتراق الفؤاد أشد من احتراق الأجساد والأشد يبطل الإحساس بالأضعف كما تراه فليس الهلاك من النار والسيف إلا من حيث إنه يفرق بين جزأين يرتبط أحدهما بالآخر برابطة التأليف الممكن في الأجسام فالذي يفرق بين القلب وبين محبوبه الذي يرتبط به برابطه تأليف أشد إحكاماً من تأليف الأجسام فهو أشد إيلاماً إن كنت من أرباب البصائر وأرباب القلوب ولا يبعد أن لا يدرك من لا قلب له شدة هذا الألم ويستحقره بالإضافة إلى ألم الجسم فالصبي لو خير بين ألم الحرمان على الكرة والصولجان وبين ألم الحرمان عن رتبة السلطان لم يحس بألم الحرمان عن رتبة السلطان أصلاً ولم يعد ذلك ألماً وقال: العدو في الميدان مع الصولجان أحب إلي من ألف سرير للسلطان مع الجلوس عليه بل من تغلبه شهوة البطن لو خير بين الهريسة والحلواء وبين فعل جميل يقهر به الأعداء ويفرح به الأصدقاء لآثر الهريسة والحلواء وهذا كله لفقد المعنى الذي بوجوده يصير الجاه محبوباً. ووجود المعنى الذي بوجوده يصير الطعام لذيذاً وذلك لمن استرقته صفات البهائم والسباع ولم تظهر فيه صفات الملائكة التي لا يناسبها ولا يلذها إلا القرب من رب العالمين ولا يؤلمها إلا البعد والحجاب وكما لا يكون الذوق إلا في اللسان والسمع إلا في الآذان فلا تكون هذه الصفة إلا في القلب فمن لا قلب له ليس له هذا الحس كمن لا سمع له ولا بصر ليس له لذة الألحان وحسن الصور والألوان وليس لكل إنسان قلب ولو كان لما صح قوله تعالى: " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب " فجعل من لم يتذكر بالقرآن مفلساً من القلب ولست أعني بالقلب هذا الذي تكتنفه عظام الصدر بل أعني به السر الذي هو من عالم الأمر واللحم الذي هو من عالم الخلق عرشه والصدر كرسيه وسائر الأعضاء عالمه ومملكته ولله الخلق والأمر جميعاً ولكن ذلك السر الذي قال الله تعالى فيه: " قل الروح من أمر ربي " هو الأمير والملك لأن بين عالم الأمر وعالم الخلق ترتيباً وعالم الأمر أمير على عالم الخلق وهو اللطيفة التي إذا صلحت صلح لها سائر الجسد من عرفها فقد عرف نفسه ومن عرف نفسه فقد عرف ربه وعند ذلك يشم العبد مبادئ روائح المعنى المطوي تحت قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله خلق آدم على صورته " ونظر بعين الرحمة إلى الحاملين له على ظاهر لفظه وإلى المتعسفين في طريق تأويله وإن كانت رحمته للحاملين على اللفظ أكثر من رحمته للمتعسفين في التأويل لأن الرحمة على قدر المصيبة ومصيبة أولئك أكثر وإن اشتركوا في مصيبة الحرمان من حقيقة الأمر فالحقيقة فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وحكمته يختص بها من يشاء: " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً " ولنعد إلى الغرض فقد أرخينا الطول وطولنا النفس في أمر هو أعلى من علوم المعاملات التي نقصدها في هذا الكتاب فقد ظهر أن رتبة الهلاك ليس إلا للجهال المكذبين وشهادة ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا تدخل تحت الحصر فلذلك لم نوردها. الرتبة الثانية: رتبة المعذبين وهذه رتبة من تحلى بأصل الإيمان ولكن قصر في الوفاء بمقتضاه فإن رأس الإيمان هو التوحيد: وهو أن لا يعبد إلا الله ومن اتبع هواه فقد اتخذ إلهه هواه فهو موحد بلسانه لا بالحقيقة بل معنى قولك لا إله إلا الله معنى قوله تعالى: " قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون " وهو أن تذر بالكلية غير الله ومعنى قوله تعالى: " الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " ولما كان الصراط المستقيم الذي لا يكل التوحيد إلا بالاستقامة عليه أدق من الشعر وأحد من السيف مثل الصراط الموصوف في الآخرة فلا ينفك بشر عن ميل عن الاستقامة ولو في أمر يسير إذ لا يخلو عن اتباع الهوى ولو في فعل قليل وذلك قادح في كمال التوحيد بقدر ميله عن الصراط المستقيم فذلك يقتضي لا محالة نقصاناً في درجات القرب ومع كل نقصان ناران: نار الفراق لذلك الكمال الفائت بالنقصان ونار جهنم كما وصفها القرآن فيكون كل مائل عن الصراط المستقيم معذباً مرتين من وجهين ولكن شدة ذلك العذاب وخفته وتفاوته بحسب طول المدة إنما يكون بسبب أمرين أحدهما: قوة الإيمان وضعفه والثاني: كثرة اتباع الهوى وقلته وإذ لا يخلو بشر في غالب الأمر عن واحد من الأمرين قال الله تعالى: " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً " ولذل قال الخائفون من السلف: إنما خوفنا لأنا تيقنا أنا على النار واردون وشككنا في النجاة ولما روى الحسن الخبر الوارد فيمن يخرج من النار بعد ألف عام وأنه ينادي يا حنان يا منانقال الحسن: يا ليتني كنت ذلك الرجل واعلم أن في الأخبار ما يدل على أن آخر من يخرج من النار بعد سبعة آلاف سنة وأن الاختلاف في المدة بين اللحظة وبين سبعة آلاف حتى قد يجوز بعضهم على النار كبرق خاطف ولا يكون له فيها لبث بين اللحظة وبين سبعة آلاف سنة درجات متفاوتة من اليوم والأسبوع والشهر وسائر المدد وأن الاختلاف بالشدة لا نهاية لأعلاه وأدناه التعذيب بالمناقشة في الحساب كما أن الملك قد يعذب بعض المقصرين في الأعمال بالمناقشة في الحساب ثم يعفو وقد يضرب بالسياط وقد يعذب بنوع آخر من العذاب ويتطرق إلى العذاب اختلاف ثالث في غير المدة والشدة وهو اختلاف الأنواع إذ ليس من يعذب بمصادرة المال فقط كمن يعذب بأخذ المال وقتل الولد واستباحة الحريم وتعذيب الأقارب والضرب وقطع اللسان واليد والأنف والأذن وغيره فهذه الاختلافات ثابتة في عذاب الآخرة دل عليها قواطع الشرع وهي بحسب اختلاف قوة الإيمان وضعفه وكثرة الطاعات وقلتها وكثرة السيئات وقلتها. أما شدة العذاب فبشدة قبح السيئات وكثرتها وأما كثرته فبكثرتها وأما اختلاف أنواع السيئات وقد انكشف هذا لأرباب القلوب مع شواهد القرآن بنور الإيمان وهو المعني بقوله تعالى: " وما ربك بظلام للعبيد " وقوله تعالى: " اليوم تجزى كل نفس بما كسبت " وبقوله تعالى: " وان ليس للإنسان إلا ما سعى " وبقوله تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " إلى غير ذلك مما ورد في الكتاب والسنة من كون العقاب والثواب جزاء على الأعمال وكل ذلك بعدل لا ظلم فيه وجانب العفو والرحمة أرجح إذ قال تعالى فيما أخبر عنه نبينا صلى الله عليه وسلم: " سبقت رحمت غضبي " وقال تعالى: " وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً " فإذن هذه الأمور الكلية من ارتباط الدرجات والدركات بالحسنات والسيئات معلومة بقواطع الشرع ونور المعرفة فأما التفصيل فلا يعرف إلا ظناً ومستنده ظواهر الأخبار ونوع حدس يستمد من أنوار الاستبصار بعين الاعتبار فنقول: كل من أحكم أصل الإيمان واجتنب جميع الكبائر وأحسن جميع الفرائض - أعني الأركان الخمسة - ولم يكن منه إلا صغائر متفرقة لم يصر عليها فيشبه أن يكون عذابه المناقشة في الحساب فقط فإنه إذا حوسب رجحت حسناته على سيئاته إذ ورد في الأخبار أن الصلوات الخمسة والجمعة وصوم رمضان كفارات لما بينهن وكذلك اجتناب الكبائر بحكم نص القرآن مكفراً للصغائر وأقل درجات التكفير أن يدفع العذاب إن لم يدف الحساب وكل من هذا حاله فقد ثقلت موازينه فينبغي أن يكون بعد ظهور الرجحان في الميزان وبعد الفراغ من الحساب في عيشة راضية نعم التحاقه باصحاب اليمين أو المقربين ونزوله في جنات عدن أو في الفردوس الأعلى فكذلك يتبع أصناف الإيمان لأن الإيمان إيمانان: تقليدي كإيمان العوام يصدقون بما يستمعون ويستمرون عليه وإيمان كشفي يحصل بانشراح الصدر بنور الله حتى ينكشف فيه الوجود كله على ما هو عليه فيتضح أن الكل إلى الله مرجعه ومصيره إذ ليس في الوجود إلا الله تعالى وصفاته وأفعاله فهذا الصنف هم المقربون النازلون في الفردوس الأعلى وهم على غاية القرب من الملأ الأعلى وهم أيضاً على أصناف: فمنهم السابقون ومنهم من دونهم وتفاوتهم بحسب تفاوت معرفتهم بالله تعالى ودرجات العارفين في المعرفة بالله تعالى لا تنحصر إذ الإحاطة بكنه جلال الله غير ممكنة وبحر المعرفة ليس له ساحل وعمق وإنما يغوص فيه الغواصون بقدر قواهم وبقدر ما سبق لهم من الله تعالى في الأزل فالطريق إلى الله تعالى لا نهاية لمنازله فالسالكون سبيل الله لا نهاية لدرجاتهم وأما المؤمن إيماناً تقليدياً فمن أصحاب اليمين ودرجته دون درجة المقربنين وهم أيضاً على درجات فالأعلى من درجات أصحاب اليمين تقارب رتبته رتبة الأدنى من درجات المقربين وهذا حال من اجتنب الكبائر وأدى الفرائض كلها - أعني الأركان الخمسة التي هي النطق بالشهادة باللسان والصلاة والزكاة والصوم والحج غأما من ارتكب كبيرة أو كبائر أو أهمل بعض أركان الإسلام فإن تاب توبةً نصوحاً قبل قرب الأجل التحق بمن لم يرتكب ولأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له والثوب المغسول كالذي لم يتوسخ أصلاً وإن مات قبل فهذا أمر مخطر عند الموت إذ ربما يكون موته على الإصرار سبباً لتزلزل إيمانه فيختم له بسوء الخاتمة لا سيما إذا كان إيمانه تقليدياً فإن التقليد وإن كان جازماً فهو قابل للانحلال بادنى شك وخيال والعارف البصير أبعد أن يخاف عليه سوء الخاتمة وكلاهما إن ماتا على الإيمان يعذبان إلا أن يعفو الله عذاباً يزيد على عذاب المناقشة في الحساب وتكون كثرة العقاب من حيث المدة بحسب كثرة مدة الإصرار ومن حيث الشدة بحسب قبح الكبائر ومن حيث اختلاف أصناف السيئات وعند انقضاء مدة العذاب ينزل البله المقلدون في درجات أصحاب اليمين والعارفون المستبصرون في أعلى عليين ففي الخبر من يخرج من النار يعطى مثل الدنيا كلها عشرة أضعاف فلا تظن أن المراد به تقديره بالمساحة لأطراف الأجسام كان يقابل فرسخ بفرسخين أو عشرة بعشرين فإن هذا جهل بطريق ضرب الأمثال بل هذا كقول القائل: أخذ منه جملاً واعطاه عشرة أمثاله وكان الجمل يساوي عشرة دنانير فأعطاه مائة دينار فإن لم يفهم من المثل إلا المثل في الوزن والثقل فلا تكون مائة دينار ولو وضعت في كفة الميزان والجمل في الكفة الأخرى عشر عشيره بل هو موازنة معاني الأجسام وارواحها دون أشخاصها وهياكلها فإن الجمل لا يقصد لثقله وطوله وعرضه ومساحته بل لماليته فروحه المالية وجسمه اللحم والدم ومائة دينار عشرة أمثاله بالموازنة الروحانية لا بالموازنة الجسمانية وهذا صادق عند من يعرف روح المالية من الذهب والفضة بل لو أعطاه جوهرة وزنها مثقال وقيمتها مائة دينار وقال: أعطيته عشرة امثاله كان صادقاً ولكن لا يدرك صدقه إلا الالجوهريون فإن روح الجوهرية لا تدرك بمجرد البصر بل بفطنة أخرى وراء البصثر فلذلك يكذبر به الصبي بل القروي والبدوي ويقول: ما هذه الجوهرة إلا حجر وزنه مثقال ووزن الجمل ألف ألف مثقال فقد كذب في قوله: إني أعطيته عشرة امثاله والكاذب بالتحقيق هو الصبي ولكن لا سبيل إلى تحقيق ذلك عنده إلا بأن ينتظر به البلوغ والكمال وأن يحصل في قلبه النور الذي سيدرك به أرواح الجواهر وسائر الأموال فعند ذلك ينكشف له الصدق والعارف عاجز عن تفهيم المقلد القاصر صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الموازنة إذ يقول صلى الله عليه وسلم: " الجنة في السموات " كما ورد في الأخبار والسموات من الدنيا فكيف يكون عشرة أمثال الدنيا في الدنيا وهذا كما يعجز البالغ عن تفهيم الصبي تلك الموازنة وكذلك نفهيم البدوي وكما أن الجوهري مرحوم إذا بلي بالبدوي والقروي في تفهيم تلك الموازنة فالعارف مرحوم إذا بلي بالبليد في تفهيم هذه الموازنة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " ارحموا ثلاثة: عالماً بين الجهال وغني قوم افتقر وعزيز قول ذل " والأنبياء مرحومون بين الأمة بهذا السبب ومقاساتهم لقصور عقول الأمة فتنة لهم وامتحان وابتلاء من الله وبلاء موكل بهم سبق بتوكيله القضاء الأزلي وهو المعنى بقوله عليه الصلاة والسلام: " البلاء موكل بالأنبياء ثم الولياء ثم الأمثل فالأمثل " فلا تظنن أن البلاء بلاء أيوب عليه السلام وهو الذي ينزل بالبدن فغن بلاء نوح عليه السلام أيضاً من البلاء العظيم إذ بلي بجماعة كان لا يزيدهم دعاؤه إلى الله إلا فرارً ولذلك لما تأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلام بعض الناس قال: " رحم الله اخي موسى لقد اوذي بأكثر من هذا فصبر " فإذن لا تخلو الأنبياءعن الابتلاء بالجاحدين ولا تخلو الأولياء والعلماء عن الابتلاء بالجاهلين ولذلك قلما ينفك الأولياء عن ضروب من الإيذاء وأنواع بالإخراج من البلاد والسعاية بهم إلى السلاطين والشهادة عليهم بالكفر والخروج عن الدين وواجب أن يكون أهل المعرفة عند أهل الجهل من الكافرين كما يجب أن يكون المعتاض عن الجمل الكبير جوهرة صغيرة عند الجاهلين من المبذرين المضيعين فإذا عرفت هذه الدقائق فآمن بقوله عليه الصلاة والسلام: " إنه يعطى آخر من يخرج من النار مثل الدنيا عشر مرات " وإياك أن تقتصر بتصديقك على ما يدركه البصر والحواس فقط فتكون حماراً برجلين لأن الحمار يشاركك في الحواس الخمس وغنما أنت مفارق للحمار بسر إلهي عرض على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنه وأشفقن منه فإدراك ما يخرج عن عالم الحواس الخمس لا يصادف إلا في عالم ذلك السر الذي فارقت به الحمار وسائر البهائم فمن ذهل عن ذلك وعطله وأهمله وقنع بدرجة البهائم ولم يجاوز المحسوسات فهو الذي أهلك نفسه بتعطيلها ونسبها بالإعراض عنها فلا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم فكل من لم يعرف إلا المدرك بالحواس فقد نسى الله إذ ليس ذات الله مدركاً في هذا العالم بالحواس الخمس وكل من نسي الله أنساه الله لامحالة نفسه ونزل إلى رتبة البهائم وترك الترقي إلى الأفق الأعلى وخان في الأمانة التي أودعه الله عتعالى وانعم عليه كافراً لأنعمه ومتعرضاً لنقمته إلا أنه أسوأ حالاً من البهيمة فإن البهيمة تتخلصبالموت وأما هذا فعنده أمانة سترجع لا محالة إلى مودعها فإليه مرجع الأمانة ومصيرها وتلك الأمانة كالشمس الزاهرة وإنما هبطت إلى هذه القالب الفاني وغربت فيه وستطلع هذه الشمس عند خراب هذا القالب من مغربها وتعود إلى بارئها وخالقها إما مظلمة منكسفة وإما زاهرة مشرقة والزاهرة المشرقة غير محجوبة عن حضرة الربوبية والمظلمة أيضاً راجعة إلى الحضرة إذ المرجع والمصير للكل إليه إلا أنها ناكسة رأسها عن جهة أعلى عليين إلى جهة أسفل سافلين ولذلك قال تعالى: " ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم " فبين أنهم عند ربهم إلا أنهم منكوسون قد انقلبت وجوههم إلى أقفيتهم وانتكست رؤوسهم عهن جهة فوق إلى جهة أسفل وذلك حكم الله فيمن حرمه توفيقه ولم يهده طريقه فنعوذ بالله من الضلال والنزول إلى منازل الجهال فهذا حكم انقسام من يخرج من النار ويعطى مثل عشرة أمثال الدنيا أو أكثر ولا يخرج من النار إلا موحد ولست أعني بالتوحيد ان يقول بلسانه لا إله إلا الله فإن اللسان من عالم الملك والشهادة فلا ينفع إلا في عالم الملك فيدفع السيف عن رقبته وأيدي الغانمين عن ماله ومدة الرقبة والمال مدة الحياة فحيث لا تبقى رقبة ولا مال لا ينفع القول باللسان وإنما ينفع الصدق في التوحيد وكمال التويد أن لا يرى الأمور كلها إلا من الله وعلامته أن لا يغضب على أحد من الخلق بما يجري عليه إذ لا يرى الوسائط وإنما يرى مسبب الأسباب كما سيأتي تحقيقه في التوكل وهذا التوحيد متفاوت فمن الناس من له التوحيد مثل الجبال ومنهم من له مثقال. ومنهم من له مقدار خردلة وذرة فمن في قلبه مثقال دينار من إيمان فهو أول من يخرج من النار وفي الخبر يقال: " أخرجوا من النار من في قلبه مثقال دينار من إيمان " وآخر من يخرج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان وما بين المثقال والذرة على قدر تفاوت درجاتهم بين طبقة المثقال وبين طبقة الذرة والموازنة بالمثقال والذرة على سبيل ضرب المثل كما ذكرنا في الموازنة بين أعيان الأموال وبين النقود وأكثر ما يدخل الموحدين النار مظالم العباد فديوان العباد هو الديوان الذي لا يترك فأما بقية السيئات فيتسارع العفو والتكفير إليها ففي الأثر " إن العبد ليوقف بين يدي الله تعالى وله من الحسنات أمثال الجبال لو سلمت له لكان من أهل الجنة فيقوم أصحاب المظالم فيكون قد سب ععرض هذا وأخذ مال هذا وضرب هذا فيقضى من حسناته حتى لا تبقى له حسنة فتقول الملائكة يا ربنا هذا قد فنيت حسناته وبقي طالبون كثر فيقول الله تعالى: ألقوا من سيئاتهم على سيئاته وصكوا له صكاً إلى النار " وكما يهلك هو بسيئة غيره بطريق القصاص فكذلك ينجو المظلوم بحسنة الظالم إذ ينقل إليه عوضاً عما ظلم به وقد حكي عن ابن الجلاء أن بعض إخوانه اغتابه ثم أرسل إليه يستحله فقال: لا أفعل ليس في صحيفتي حسنة أفضل منها فكيف أمحوها. وقال هو وغيره: ذنوب إخواني من حسناتي أريد أن أزين بها صحيفتي فهذا ما أردنا أن نذكره من اختلاف العباد في المعاد في درجات السعادة والشقاوة وكل ذلك حكم بظاهر أسباب يضاهي حكم الطبيب على مريض بانه يموت لا محالة ولا يقبل العلاج وعلى مريض آخر بأن عارضه خفيف وعلاجه هين فإن ذلك يظن يصيب في أكثر الأحوال ولكن تثوب إلى المشرف على الهلاك نفسه من ح لا يشعر الطبيب وقد يساق إلى ذي العارض الخفيف أجله من حيث لا يطلع عليه وذلك من أسرار الله تعالى الخفية في أرواح الأحياء وغموض الأسباب التي رتبها مسبب الأسباب بقدر معلوم إذ ليس في قوة البشر الوقوف على كنهها فكذلك النجاة والفوز في الآخرة لهما أسباب خفية ليس في قوة البشر الاطلاع عليها يعبر عن ذلك السبب الخفي المفضي إلى النجاة بالعفو والرضا وعما يفضي إلى الهلاك بالغضب والانتقام ووراء ذلك سر المشيئة الإلهية الزلية التي لا يطلع الخلق عليها فلذلك يجب علينا أن نجوز العفو عن العاصي وإن كثرت سيئاته الظاهرة والغضب على المطيع وإن كثرت طاعاته الظاهرة فإن الاعتماد على التقوى في القلب وهو أغمض من أن يطلع عليه صاحبه فكيف غيره ولكن قد انكشف لأرباب القلوب أنه لا عفو عن عبد إلا بسبب خفي يقتضي العفو ولا غضب إلا بسبب باطن يقتضي البعد عن الله تعالى ولولا ذلك لم يكن العفو والغضب جزاء على الأعمال والأوصاف ولو لم يكن جزاء لم يكن عدلاً ولو لم يكن عدلاً لم يصح قوله تعالى: " وما ربك بظلامٍ للعبيد " ولا قوله تعالى: " إن الله لا يظلم مثقال ذرة " وكل ذلك صحيح فليس للإنسان إلا ما سعى وسعيه هو الذي يرى وكل نفس بما كسبت رهينه فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ولما غيروا ما بانفسهم غير الله ما بهم تحقيقاً لقوله تعالى: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " وهذا كله قد انكشف لأرباب القلوب انكشافاً اوضح من المشاهدة بالبصر إذ للبصر يمكن الغلط فيه إذ قد يرى البعيد قريباً و الكبير صغيراً. ومشاهدة القلب لا يمكن الغلط فيها وإنما للشأن في انفتاح بصيرة القلب وإلا فما يرىبها بعد الانفتاح فلا يتصور فيه الكذب وإليه الإشارة بقوله تعالى: " ما كذب الفؤاد ما رأى ". الرتبة الثالثة رتبة الناجين وأعني بالنجاة السلامة فقط دون السعادة والفوز وهم قوم لم يخدموا فيخلع عليهم ولم يقصروا فيعذبوا ويشبه أن يكون هذا حال المجانين والصبيان من الكفار والمعتوهين والذين لم تبلغهم الدعوة في أطراف البلاد وعاشوا على البله وعدم المعرفة فلم يكن لهم معرفة ولا جحود ولا طاعة ولا معصية فلا وسيلة تقربهم ولا جناية تبعدهم فما هم من أهل الجنة ولا من أهل النار بل ينزلون في منزلة بين المنزلتين ومقام بين المقامين عبر الشرععنه بالأعراف وحلول طائفة من الخلقفيه معلوم يقيناً من الآيات والأخبار ومن أنوار الاعتبار فأما الحكم على العين كالحكم مثلاً بان الصبيان منهم فهذا مظنون وليس بمستيقن والاطلاع عليه تحقيقاً في عالم النبوة: ويبعد أن ترتقى إليه رتبة الأولياء والعلماء والأخبار في حق الصبيان أيضاً متعارضة حتى قالت عائشة رضي الله عنها لما مات بعض الصبيان: عصفور من عصافير الجنة فأنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " وما يدريك " فإذن الإشكال والاشتباه أغلب في هذا المقام. الرتبة الرابعة رتبة الفائزين وهم العارفون دون المقلدين وهم المقربون الساتبقون فإن المقلد وغن كان له فوز على الجملة بمقام في الجنة فهو من أصحاب اليمين وهؤلاء هم المقربون وما يلقى هؤلاء يجاوز حد البيان والقدر الممكن ذكره ما فصله القرى فليس بعد بيان الله بيان والذي لا يمكن التعبير عنه في هذا العالم فهو الذي أحمله قوله تعالى: " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين " وقوله عز وجل: " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سنعت ولا خطر على قلب بشر " والعارفون مطلبهم تلك الحالة التي لا يتصور أن تخطر على قلب بشر في هذا العالم وأما الحور والقصور والفاكهة واللبن والعسل والخمر والحلي والأساور فإنهم لا يحرصون عليها ولو أعطوها لم يقنعوا بها ولا يطلبون إلا لذة النظر إلى وجه الله تعالى الكريم فهي غاية السعادات ونهاية اللذات ولذلك قيل لرابعة العدوية رحمة الله عليها: كيف رغبتك في الجنة فقالت: الجار ثم الدار فهؤلاء قوم شغلهم حب رب الدار عن الدار وزينتها بل عن كل شيء سواه حتى عن أنفسهم ومثال العاشق المستهتر بمعشوقه المستوفي همه بالنظر إلى وجهه والفكر فيه فإنه في حال الاستغراق غافل عن نفسه لا يحس بما يصيبه في بدنه ويعبر على هذه الحالة بأنه فنى عن نفسه ومعناه أنه صار مستغرقاً بغيره وصارت همومه هماً واحداً وهو محبوبه ولم يبق فيه متسع لغير محبوبه حتى يلتفت إليه لا نفسه ولا غير نفسه وهذه الحالة هي التي توصل في الآخرة إلى قرة عين لا يتصور أن تخطر في هذا العالم على قلب بشر كمالا يتصور أن تخطر صورة الألوان واللحان على قلب الأصم والأكمه إلا أن يرفع الحجاب عن سمعه وبصره فعند ذلك يدرك حاله ويعلم قطعاً أنه لم يتصور أن تخطر بباله قبل ذلك صورته فالدنيا حجاب على التحقيق وبرفعه ينكشف الغطاء فعند ذلك يدرك ذوق الحياة الطيبة: " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " فهذا القدر كاف في بيان توزع الدرجات على الحسنات والله الموفق بلطفه. اعلم ان الصغيرة تكبر بأسباب: منها الإصرار والمواظبة ولذلك قيل: لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار فكبيرة واحدة تنصرم ولا يتبعها مثلها لو تصور ذلك كان العفو عنها أرجى من صغيرة يواظب العبد عليها ومثال ذلك قطرات من الماء تقع على الحجر على توال فتؤثر فيه وذلك القدر من الماء لو صب عليه دفعة واحدة لم ؤثر ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير الأعمال أدومها وغن قل " والأشياء تستبان بأضدادها وإن كان النافع من العمل هو الدائم وإن قل فالكثير المنصرم قليل النفع في تنوير القلب وتطهيره فكذلك القليل من السيئات إذا دام عظم تأثيره في إظلام القلب إلا أن الكبيرة قلما يتصور الهجوم عليها بغتة من غير سوابق ولواحق من جملة الصغائر فقلما يزني الزاني بغتة من غير مراودة ومقدمات وقلما يقتل بغتة من غير مشاحنة سابقة ومعاداة فكل كبيرة تكتنفها صغائر سابقة ولا حقة ولو تصورت كبيرة وحدها بغتة ولم يتفق إليها عود ربما كان العفو فيها أرجى من صغيرة واظب الإنسان عليها عمره ومنها أن يستصغر الذنب فإن الذنب كلما اسنعظمه العبد من نفسه صغر عند الله تعالى لأن استعظامه يصدر عن نفور القلب عنه وكراهيته له وذلك النفور يمنع من شدة تأثره به واستصغاره يصدر عن الألف به وذلك يوجب سشدة الأثر في القلب والقلب هو المطلوب تنويره بالطاعات والمحذور تسويده بالسيئات ولذلك لا يؤاخذ بما يجري عليه في الغفلة فإن القلب لا يتأثر بما يجري في الغفلة وقد جاء في الخبر: " المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه يخاف أن يقع عليه والمنافق يرى ذنبه كذباب مر على أنفه فأطاره " وقال بعضهم الذنب الذي لا يغفر قول العبد: ليت كل ذنب عملته مثل هذا وإنما يعظمالذنب في قلب المؤمن لعلمه بجلال الله فإذا نظر إلى عظم من عصى به رأى الصغيرة كبيرة وقد أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه: لا تنظر إلى قلة الهدية وانظر إلى عظم مهديها ولا تنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى كبرياء من واجهته بها وبهذا الاعتبار قال بعض العارفين: لا صغيرة بل كل مخالفة فهي كبيرة وكذلك قال بعض الصحابة رضي الله عنهم للتابعين: وإنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات إذ كانت معرفة الصحابة بجلال الله أتم فكانت الصغائر عندهم بافضافة إلى جلال الله تعالى من الكبائر وبهذا السبب يعظم من العالم ما لا يعظم من الجاهل ويتجاوز عن العامي في أمور لا يتجاوز في أمثالها عن العارف لأن الذنب والمخالفة يكبر بقدر معرفة المخالف. ومنها السرور بالصغيرة والفرح والتبجح بها واعتداد التمكن من ذلك نعمة والغفلة عن كونه سبب الشقاوة فكلما غلبت حلاوة الصغيرة عند العبد كبرت الصغيرة وعظم أثرها في تسويد قلبه حتى إن من المذنبين من يتمدح بذنبه ويتبجح به لشدة فرحه بمقارفته إياه كما يقول: أما رأيتني كيف مزقت عرضه ويقول المناظر في مناظرته: أما رأيتني كيف فضحته وكيف ذكرت مساويه حتى أخجلته وكيف استخففت به وكيف لبست عليه ويقول المعامل في التجارة: أما رأيت كيف روجت عليه الزائف وكيف خدعته وكيف خدعته وكيف غبنته في ماله وكيف استحمقته فهذا وأمثاله تكبر به الصغائر فإن الذنوب مهلكات وإذا دفع العبد إليها وظفر الشيطان به في الحمل عليها فينبغي أن يكون في مصيبة وتأسف بسبب غلبة العدو عليه وبسبب بعده من الله تعالى فالمريض الذي يفرح بأن ينكسر إناؤه الذي فيه دواؤه حتى يتخلص من ألم شربه لا يرجى شفاؤه ومنها أن يتهاون بستر الله عليه وحلمه عنه وإمهاله إياه ولا يدري أنه إنما يمهل مقتاً ليزداد بالإمهال إثماً فيظن أن تمكنه من المعاصي عناية من الله تعالى به فيكون ذلك لأمنه من مطكر الله وجهله بمكامن الغرور بالله كما قال تعالى: " ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما تقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير " ومنها ان ياتي الذنب وظهره بان يذكره بعد إتيانه أو يأتيه في مشهد غيره فإن ذلك جناية منه على ستر الله الذي سدله عليه وتحريك لرغبة الشر فيمن أسمعه ذنبه او أشهده فعله فهما جنايتان انضمتا إلى جنايته فغلظت به فإن انضاف إلى ذلك الترغيب للغير فيه والحمل عليه وتهيئة الأسباب له صارت جناية رابغة وتفاحش الأمر وفي الخبر كل الناس معافى إلا المجاهرين يبيت أحدهم على ذنب قد ستره الله عليه فيصبح فيكشف ستر الله ويتحدث بذنبه " وهذا لأن من صفات الله ونعمه أنه يظهر الجميل ولا يهتك الستر فالإظهار كفران لهذه النعمة وقال بعضهم: لا تذنب فإن ولا بد فلا ترغب غيرك فيه فتذنب ذنبين ولذلك قال تعالى: " المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يامرون بالمنكر وينهون عن المعروف " وقال بعض السلف: ما انتهك المرء من أخيه حرمة أعظم من أن يساعده على معصية ثم يهونها عليه ومنها أن يكون المذنب عالماً يقتدى به فإذا فعله بحيث يرى ذلك منه كبر ذنبه كلبس العالم الإبريسم وركوبه مراكب الذهب وأخذه مال الشبهة من أموال السلاطين ودخوله على السلاطين وتردده عليهم ومساعدتهم إياهم بترك الإنكار عليهم وغطلاق اللسان في الأعراض وتعديه باللسان في المناظرة وقصد الاستخفاف واشتغاله من العلوم بما لا يقصد منه إلا الجاه كعلم الجدل والمناظرة فهذه ذنوب يتبع العالم عليها فيموت ويبقى شره مستطيراً في العالم آماد متطاولة فطوبى لمن إذا مات ماتت ذنوبه معه وفي الخبر " من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئاً " قال تعالى: " ونكتب ما قدموا وآثارهم " والآثار ما يلحق من الأعمال بعد انقضاء العمل والعامل وقال ابن عباس: ويل للعالم من الأنباع يزل زلة فيرجع عنها ويحملها الناس فيذهبون بها في الآفاق وقال بعضهم: مثل زلة العالم مثل انكسار السفينة تغرق ويغرق أهلها وفي الإسرائيليات: أن عالماً كان يضل الناس بالبدعة ثم أدركته توبة فعمل في الإصلاح دهراً فأوحى الله تعالى إلى نبيهم: قل له إن ذنبك لو كان فيما بيني وبينك لغفرته لك ولكن كيف بمن أضللت من عبادي فأدخلتهم النار فبهذا يتضح أن أمر العلماء مخطر فعليهم وظيفتان: إحداهما ترك الذنب والأخرى إخفاؤه وكما تتضاعف أوزارهم على الذنوب فكذلك يتضاعف ثوابهم على الحسنات إذا اتبعوا فإذا ترك التجمل والميل إلى الدنيا وقنع منها باليسير ومن الطعام ومن الكسوة بالخلق فيتبع عليه ويقتدي به العلماء فيكون له مثل ثوابه وإن مال إلى التجمل مالت طباع من دونه إلى التشبه به ولا يقدرون على التجمل إلا بخدمة السلاطين وجمع الحطام من الحرام ويكون هو السبب في جميع ذلك فحركات العلماء في طورى الزيادة والنقصان تتضاعف آثارها إما بالربح وإما بالخسران وهذا القدر كاف في تفصيل الذنوب إلى التوبة توبة عنها.
الركن الثالث في تمام التوبة وشروطها ودوامها إلى آخر العمر قد ذكرنا أن التوبة عبارة عن ندم يورث عزماً وقصداً وذلك الندم أورثه العلم بكون المعاصي حائلاً بينه وبين محبوبه ولكل واحد من العلم والندم دوام وتمام ولتمامها علامة ولدوامها شرط فلا بد من بيانها: أما العلم فالنظر فيه نظر في سبب التوبة وسيأتي وأما الندم فهو توجع القلب عند شعوره بفوات المحبوب وعلامته طول الحسرة والحزن وانسكاب الدمع وطول البكاء والفكر فمن استشعر عقوبة نازلة بولده أو ببعض أعزته طال عليه مصيبته وبكاؤه وأي عزيز عليه من نفسه وأي عقوبة أشد من النار وأي شيء أدل على نزول العقوبة من المعاصي واي مخبر أصدق من الله ورسوله ولو حدثه إنسان واحد يسمى طبيباً: أن مرض ولده المريض لا يبرأ وأنه سيموت منه لطال في الحال حزنه فليس ولده باعز من نفسه ولا الطبيب بأعلم ولا أصدق من الله ورسوله ولا الموت بأشد من النار ولا المرض بأدل على الموت من المعاصي على سخط الله تعالى والتعرض بها للنار فألم الندم كلما كان أشد كان تكفير الذنوب به أرجى فعلامة صحة الندم رقة القلب وغزارة الدمع وفي الخبر " جالسوا التوابين فإنهم أرق أفئدة " ومن علامته أن تتمكن مرارة تلك الذنوب في قلبه بدلاً عن حلاوتها فيستبدل بالميل كراهية وبالرغبة نفرة. وفي الإسرائيليات: إن الله سبحانه وتعالى قال لبعض أنبيائه - وقد سأله قبول توبة عبد بعد أن اجتهد سنين في العبادة ولم ير قبول توبته فقال - وعزتي وجلالتي لو شفع فيه أهل السموات والأرض ما قبلت توبته وحلاوة ذلك الذنب الذي تاب منه في قلبه. فإن قلت: فالذنوب هي أعمال مشتهاة بالطبع فكيف يجد مرارتها فأقول: من تناول عسلاً كان فيه سم ولم يدركه بالذوق واستلذه ثم مرض وطال مرضه وتناثر شعره وفلجت أعضاؤه فإذا قدم إليه عسل فيه مثل ذلك السم وهو في غاية الجوع والشهوة للحلاوة فهل تنفر نفسه عن ذلك العسل أم لا فإن قلت: لا فهو جحد للمشاهدة والضرورة بل ربما تنفر عن العسل الذي ليس فيه سم أيضاً لشبهه به فوجدان التائب مرارة الذنب كذلك يكون وذلك يكون كل ذنب فذوقه ذوق العسل وعمله عمل السم ولا تصح التوبة ولا تصدق إلا بمثل هذا الإيمان ولما عز مثل هذا الإيمان عزت التوبة والتائبون فلا ترى إلا معرضاً عن الله تعالى متهاوناً بالذنوب مصراً عليها فهذا شرط تمام الندم وينبغي أن يدوم إلى الموت وينبغي ان يجد ههذ المرارة في جميع الذنوب وإن لم يجد هذه المرارة في جميع الذنوب وإن لم يكن قد ارتكبها من قل كما يجد متناول السم في العسل النفرة من الماء البارد مهما علم ان فيه مثل ذلك السم غذ لم يكن ضرره من العسل بل مما فيه ولم يكن ضرر التائب من سرقته وزناه من حيث إنه سرقة وزنا بل من حيث إنه من مخالفة أمر الله تعالى وذلك جار في كل ذنب. وأما القصد الذي ينبعث منه وهو غرادة التدارك فله تعلق بالحال وهو يوجب ترك كل محظور هو ملابس له وأداء كل فرض هو متوجه عليه في الحال. وله تعلق بالماضي وهو تدارك ما فرط. وبالمستقبل وهو دوام الطاعة ودوام ترك المعصية إلى الموت. وشرط صحتها فيما يتعلق بالماضي أن يرد فكره إلى أول يوم بلغ فيه بالسن او الاحتلام ويفتش عما مضى من عمره سنة سنة وشهراً شهراً وسوماً يوماً ونفساً نفساً وينظر إلى الطاعات ما الذي قصر فيه منها وإلى المعاصي ما الذي قارفه منها فإن كان قد ترك صلاة او صلاها في ثوب نجس أو صلاها بنية غير صحيحة لجهلة بشرط النية فيقضيها عن آخرها فإن شك في عدد ما فاته منها حسب من مدة بلوغه وترك القدر الذي يستيقن أنه داء ويقضي الباقي وله أن ياخذ فيه بغالب الظن ويصل إليه على سبيل التحري والاجتهاد. وأما الصوم فإن كان قد تركه في سفر ولم يقضه أو أفطر عمداً أو نسي النية بالليل ولم يقض فيتعرف مجموع ذلك بالتحرى والاجتهاد ويشتغل بقضائه. وأما الزكاة فيحسب جميع ماله وعدد السنين من أول ملكه - لا من زمان البلوغ فإن الزكاة واجبة في مال الصبي - فيؤدي ما علم بغالب الظن أنه في ذمته فإن أداه لا على وجه يوافق مذهبه بان لم يصرف إلى الأصناف الثمانية أو أخرج البدل وهو على مذهب الشافعي رحمه الله تعالى فيقضي جميع ذلك فإن ذلك لا يجزيه اصلاً وحساب الزكاة ومعرفة ذلك يطول ويحتاج فيه إلى تأمل شاف ويلزمه أن يسأل عن كيفية الخروج عنه من العلماء. وأما الحج فإن كان قد استطاع في بعض السنين ولم يتفق له بالخروج والآن قد أفلس فعليه الخروج فإن لم يقدر مع الإفلاس فعليه أن يكتسب من الحلال قدر الزاد فإن لم يكن له كسب ولا مال فعليه أن يسأل الناس ليصرف إليه من الزكاة او الصدقات ما يحج به فغنه إن مات قبل الحج مات عاصياً. قال عليه السلام: " من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً وغن شاء نصرانياً " والعجز الطارئ بعد القدرة لا يسقط عنه الحج. فهذا طريق تفتيشه عن الطاعات وتداركها. وأما المعاصي فيجب أن يفتش من أول بلوغه عن سمعه وبصثره ولسانه وبطنه ويده ورجله وفرجه وسائر جوارحه ثم ينظر في جميع أيامه وساعاته ويفصل عند نفسه ديوان معاصيه حتى يطلع علىجميعها صغائرها وكبائرها ثم ينظر فيها فما كان من ذلك بينه وبين الله تعالى من حيث لا يتعلق بمظلمة العباد كنظر إلى غير محرم وقعود في مسجد مع الجنابة ومس المصحف بغير وضوء واعتقاد بدعة وشرب خمر وسماع ملاه وغيره ذلك مما لا يتعلق بمظالم العباد فالتوبة عنها بالندم والتحسر عليها وبأن يحسب من حيث الكبر ومن حيث المدة ويطلب لكل معصية منها حسنة تناسبها فيأتي من الحسنات بمقدار تلك السيئات أخذاً من قوله صلى الله عليه وسلم: " اتق الله حيث كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها بل من قوله تعالى: " إن الحسنات يذهبن السيئات " فيكفر سماع الملاهي بسماع القرآن وبمجالس الذكر ويكفر القعود في المسجد جنباً القعود في المسجد جنباً بالاعتكاف فيه مع الاشتغال بالعبادة ويكفر مس المصحف محدثاً بإكرام المصحف وكثرة قراءة القرآن منه وكثرة تقبيله بأن يكتب مصحفاً ويجعله وقفاً ويكفر شرب الخمر بالتصدق بشراب حلال هو أطيب منه وأحب إليه وعد جميع المعاصي وغنما المقصود سلوك الطريق المضادة فإن المرض فإن المرض يعالج بضده فكل ظلمة ارتفعت إلى القلب بمعصية فلا يمحوها إلا نور يرتفع إليها بحسنة تضادها والمتضادات هي المتناسبات فلذلك ينبغي أن تمحى كل سيئة بحسنة من جنسها لكن تضادها فإن البياض يزال ابلسواد لا بالحرارة والبرودة وهذا التدريج والتحقيق من التلطف في طريق المحو فالرجاء فيه أصدق والثقة به أكثر من أن يواظب على نوع واحد من العبادات وإن كان ذلك أيضاً مؤثراً في المحو فهذا حكم ما بينه وبين الله تعالى ويدل على أن الشيء يكفر بضده أن حب الدنيا رأس كل خطيئة وأثر اتباع الدنيا في القلب السرور بها والحنين إليها فلا جرم كان كل أذى يصيب المسلم ينبو بسببه قلبه عن الدنيا يكون كفارة له إذ القلب يتجافى بالهموم والغموم عن دار الهموم قال صلى الله عليه وسلم: " من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهموم " وفي لفظ أخر: " إلا الهم بطب المعيشة " وفي حديث عائشة رضي الله عنها: إذا كثرت ذذنوب العبد لم تكن له أعمال تكفرها أدخل الله تعالى عليه الهموم فتكون كفارة لذنوبه " ويقال إن الهم الذي يدخل على القلب والعبد لا يعرف هو ظلمة الذنوب والهم بها وشعور القلب بوقفة الحساب وهو المطلع. فإن قلت: هم الإنسان غالباً بماله وولده وجاهه وهو خطيئة فكيف يكون كفارة فاعلم أن الحب له خطيئة والحرمان عنه كفارة ولو تمتع به لتمت الخطيئة فقد روي أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام في السجن فقال له: كيف تركت الشيخ الكئيب فقال: قد حزن عليك حزن مائة ثكلى قال: فما له عند الله قال: أجر مائة شهيد. فإذن الهموم ايضاً مكفرات حقوق الله فهذا حكم ما بينه وبين الله تعالى. وأما مظالم العباد ففيها أيضاً معصية وجناية على حق الله تعالى فإن الله تعالى نهى عن ظلم العباد أيضاً فما يتعلق منه بحق الله تعالى تداركه بالندم والتحسر وترك مثله في المستقبل والإتيان بالحسنات التي هي أضدادها فيقابل إيذاءه الناس بالإحسان إليهم ويكفر غصب أموالهم بالتصدق بملكه الحلال ويكفر تناول أعراضهم بالغيبة والقدح فيهم بالثناء على أهل الدين وإظهار ما يعرف من خصال الخير من أقرانه وأمثاله ويكفر قتل النفوس بإعتاق الرقاب لأن تلك إحياء إذ العبد مفقود لنفسه موجود لسيده والإعتاق إيجاد لا يقدر الإنسان على أكثر منه فيقابل الإعدام بالإيجاد وبهذا تعرف أن ما ذكرناه من سلوك طريق المضادة في التكفير والمحو مشهود له في الشرع حيث كفر القتل بإعتاق رقبة ثم إذا فعل ذلك كله لم يكفه ما لم يخرج عن مظالم العباد ومظالم العباد إما في النفوس أو الأحوال أو الأعراض أو القلوب أعني به الإيذاء المحض. أما النفوس فإن جرى عليه قتل خطأ فتوبته بتسليم الدية ووصولها إلى المستحق إما منه او من عائلته وهو في عهدة ذلك قبل الوصول. وغن كان عمداً موجباً للقصاص فبالقصاص فإن لم يعرف فيجب عليه أن يتعرف عند ولي الدم ويحكمه في روحه فإن شاء عفا عنه وإن شاء قتله ولا تسقط عهدته إلا بهذا ولا يجوز له الإخفاء وليس هذا كما لو زنى أو شرب او سرق أو قطع الطريق أو باشر ما يجب عليه فيه حد الله تعالى فإنه لا يلزمه في التوبة أن يفضح نفسه ويهتك ستره ويلتمس من الوالي استيفاء حف الله تعالى بل عليه أن يتستر بستر الله تعالى ويقيم حد الله على نفسه بانواع المجاهدة والتعذيب فالعفو في محض حقوق الله تعالى قريب من التائبين النادمين فإن أمر هذه إلى الوالي حتى أقام عليه الحد وقع موقعه وتكون توبته صححية مقبولة عند الله تعالى دليل ما روي أن ماعز بن مالك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد ظلمت نفسي وزنيت وغني أريد أن تطهرني! فرده فلما كان من الغدأتاه فقال: يا رسول الله إني قد زنيت! فرده الثانية فلما كان في الثالثة أمر به فحفر له حفرة ثم أمر به فرجم فكان الناس فيه فريقين: فقائل يقول لقد هلك وأحاطت به خطيئته وقائل يقول ما توبة أصدق من توبته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم " وجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني! فردها فلما كان من الغد قالت: يا رسول الله لم تردني لعلك تريد أن ترددني كما رددت ماعزاً فوالله إني لحبلى. فقال صلى الله عليه وسلم: " أما الآن فاذهبي حتى تضعي " فلما ولدت أتت بالصبي في خرقة فقالت: هذا قد ولدته قال: " اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه " فلما فطمته أتت بالصبي وفي يده كسرة خبز فقالت: يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام! فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجهه فسبها فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها فقال: " مهلاً يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له " ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت. وأما القصاص وحد القذف: فلا بد من تحليل صاحبه المستحق فيه وإن كان المتناول ما لا تناول بغصب أو خيانة أو غبن في معاملة بنوع تلبيس كترويج زائف أو ستر عيب من المبيع أو نقص أجرة أجير أو منع أجرته فكل ذلك يجب أن يفتش عنه لا من حد بلوغه بل من أول مدة وجوده فإن ما يجب في مال الصبي يجب على الصبي إخراجه بعد البلوغ إن كان الولي قد قصر فيه فإن لم يفعل كان ظالماً مطالباً به إذ يستوي في الحقوق المالية الصبي والبالغ وليحاسب نفسه على الجبات والدوانق من أول يوم حياته إلى يوم توبته قبل أن يحاسب في القيامة وليناقش قبل أن يناقش فمن لم يحاسب نفسه في الدنيا طال في الآخرة حسابه فإن حصل مجموع ما عليه بظن غالب ونوع من الاجتهاد ممكن فليكتبه أسامي أصحاب المظالم واحداً واحداً وليطف في نواحي العالم وليطلبهم وليستحلهم أو ليؤد حقوقهم وهذه التوبة تشق على الظلمة وعلى التجار فإنهم لا يقدرون على طلب المعاملين كلهم ولا على طلب ورثتهم ولكن على كل واحد منهم أن يفعل ما يقدر عليه فإن عجز فلا يبقى له طريق إلا أن يكثر من الحسنات حتى تفيض عنه يوم القيامة فتؤخذ حسناته وتوضع في موازين أرباب المظالم ولكن كثرة حسناته بقدر كثرة مظالمه فإنه إن لم تف بها حسناته حمل من سيئات أرباب المظالم فيهلك بسيئات غيره. فهذا طريق كل تائب في رد المظالم وهذا يوجب استغراق العمر في الحسنات لو طال العمر بحسب طول مدة الظلم فكيف وذلك مما لا يعرف وربما يكون الأجل قريباً فينبغي أن يكون تشميره للحسنات والوقت ضيق أشد من تشميره الذي كان في المعاصي في متسع الأوقات. هذا حكم المظالم الثابتة في ذمته. أما أمواله الحاضرة فليرد إلى المالك ما يعرف له مالكاً معيناً وما لا يعرف له مالكاً فعليه أن يتصدق به فإن اختلط الحلال بالحرام فعليه أن يعرف قدر الحرام بالاجتهاد ويتصدق بذلك المقدار كما سبق تفصيله في كتاب الحلال والحرام. وأما الجناية على القلوب بمشافهة الناس بما يسوءهم أو يعيبهم في الغيبة فيطلب كل من تعرض له بلسان أو آذى قلبه بفعل من أفعاله وليستحل واحداً واحداً منهم ومن مات أو غاب فقد فات أمره ولا يتدارك إلا بتكثير الحسنات لتؤخذ منه عوضاً في القيامة وأما من وجده وأحله بطيب قلب منه فذلك كفارته وعليه أن يعرفه قدر جنايته وتعرض له فالاستحلال المبهم لا يكفي وربما لو عرف ذلك وكثرة تعديه عليه لم تطب نفسه بالإحلال وادخر ذلك في القيامة ذخيرة يأخذها من حسناته أو يحمله من سيئاته فإن كان في جملة جنايته على الغير ما لو ذكره وعرفه لتأذى بمعرفته كزناه بجاريته أو أهله أو نسبته باللسان إلى عيب من خفايا عيوبه يعظم آذاه مهما شوفه به فقد انسد عليه طريق الاستحلال فليس له إلا أن يستحل منها ثم تبقى له مظلمة فليجبرها بالحسنات كما يجبر مظلمة الميت والغائب. وأما الذكر والتعريف فهو سيئة جديدة يجب الاستحلال منها ومهما ذكر جنايته وعرفه المجني عليه فلم تسمح نفسه بالاستحلال بقيت المظلمة عليه فإن هذا حقه فعليه أن يتلطف به ويسعى في مهماته وأغراضه ويظهر من حبه والشفقة عليه ما يستميل به قلبه فإن الإنسان عبد الإحسان وكل من نفر بسيئة مال بحسنة فإذا طاب قلبه بكثرة تودده وتلطفه سمحت نفسه بالإحلال فإن أبى إلا الإصرار فيكون تلطفه به واعتذاره إليه من جملة حسناته التي يمكن أن يجبر بها في القيامة جنايته وليكن قدر سعيه في فرحه وسرور قلبه بتودده وتلطفه كقدر سعيه في أذاه حتى إذا قاوم أحدهما الآخر أو زاد عليه أخذ منه ذلك عوضاً في القيامة بحكم الله به عليه كمن أتلف في الدنيا مالاً فجاء بمثله فامتنع من له المال من القبول وعن الإبراء فإن الحاكم يحكم عليه بالقبض منه شاء أم أبى فكذلك يحكم في صعيد القيامة أحكم الحاكمين وأعدل المقسطين وفي المتفق عليه من الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: " كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة قال: لا فقتله فكمل به مائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال له: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة قال: نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله عز وجل فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط. فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه حكماً بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة " وفي رواية " فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها بشبر فجعل من أهلها " وفي رواية " فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقربي وقال قيسوا ما بينهما فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له " فبهذا تعرف أنه لا خلاص إلا برجحان ميزان الحسنات ولو بمثقال ذرة فلا بد للتائب من تكثير الحسنات هذا حكم القصد المتعلق بالماضي. وأما العزم المرتبط بالاستقبال فهو أن يعقد مع الله عقداً مؤكداً ويعاهده بعهد وثيق أن لا يعود إلى تلك الذنوب ولا إلى أمثالها كالذي يعلم في مرضه أن الفاكهة تضره مثلاً فيعزم عزماً جزماً أنه لا يتناول الفاكهة ما لم يزل مرضه فإن هذا العزم يتأكد في الحال وإن كان يتصور أن تغلبه الشهوة في ثاني الحال ولكن لا يكون تائباً ما لم يتأكد عزمه في الحال ولا يتصور أن يتم ذلك للتائب في أول أمره إلا بالعزلة والصمت وقلة الأكل والنوم وإحراز قوت حلال فإن كان له مال موروث حلال أو كانت له حرفة يكتسب بها قدر الكفاية فليقتصر عليه فإن رأس المعاصي أكل الحرام فكيف يكون تائباً مع الإصرار عليه ولا يكتفي بالحلال وترك الشبهات من لا يقدر على ترك الشهوات في المأكولات والملبوسات وقد قال بعضهم من صدق في ترك شهوة وجاهد نفسه لله سبع مرات لم يبتل بها. وقال آخر: من تاب من ذنب واستقام سبع سنين لم يعد إليه أبداً ومن مهمات التائب إذا لم يكن عالماً أن يتعلم ما يجب عليه في المستقبل وما يحرم عليه حتى يمكنه الاستقامة وإن لم يؤثر العزلة لم تتم له الاستقامة المطلقة إلا أن يتوب عن بعض الذنوب كالذي يتوب عن الشرب والزنا والغصب مثلاً وليست هذه توبة مطلقة وقد قال بعض الناس إن هذه التوبة لا تصح وقال قائلون تصح ولفظ الصحة في هذا المقام مجمل بل نقول لمن قال لا تصح: إن عنيت به أن تركه بعض الذنوب لا يفيد أصلاً بلا وجوده كعدمه فما أعظم خطأك! فإنا نعلم أن كثرة الذنوب سبب لكثرة العقاب وقلتها سبب قلته ونقول لمن قال تصح إن أردت به أن التوبة عن بعض الذنوب توجب قبولاً يوصل إلى النجاة أو الفوز فهذا أيضاً خطأ! بل النجاة والفوز بترك الجميع هذا حكم الظاهر ولسنا نتكلم في خفايا أسرار عفو الله فإن قال من ذهب إلى أنها لا تصح إني أردت به أن التوبة عبارة عن الندم. وإنما يندم على السرقة مثلاً لكونها معصية لا لكونها سرقة ويستحيل أن يندم عليها دون الزنا إن كان توجعه لأجل المعصية فإن العلة شاملة لهما إذ من يتوجع على قتل ولده بالسيف يتوجع على قتله بالسكين لأن توجعه بفوات محبوبه سواء كان بالسيف أو بالسكين فكذلك توجع العبد بفوات محبوبه وذلك بالمعصية سواء عصى بالسرقة أو الزنا فكيف يتوجع على البعض دون البعض فالندم حالة يوجبها العلم بكون المعصية مفوتة للمحبوب من حيث إنها معصية فلا يتصور أن يكون على بعض المعاصي دون البعض ولو جاز هذا لجاز أن يتوب من شرب الخمر من أحد الدنين دون الآخر فإن استحال ذلك من حيث إن المعصية في الخمرين واحد وإنما الدنان ظروف فكذلك أعيان المعاصي آلات للمعصية والمعصية من حيث مخالفة الأمر واحدة فإذن معنى عدم الصحة أن الله تعالى وعد التائبين رتبة وتلك الرتبة لا تنال إلا بالندم ولا يتصور الندم على بعض المتماثلات فهو كالملك المرتب على الإيجاب والقبول فإنه إذا لم يتم الإيجاب والقبول نقول إن العقد لا يصح أي لم تترتب عليه الثمرة وهو الملك وتحقيق هذا أن ثمرة مجرد الترك أن ينقطع عنه عقاب ما تركه وثمرة الندم تكفير ما سبق فترك السرقة لا يكفر السرقة بل الندم عليها ولا يتصور الندم إلا لكونها معصية وذلك يعم جميع المعاصي وهو كلام مفهوم واقع يستنطق المنصف بتفصيل به ينكشف الغطاء. فنقول: التوبة عن بعض الذنوب لا تخلو إما أن تكون عن الكبائر دون الصغائر أو عن الصغائر دون الكبائر أو عن كبيرة دون كبيرة أما التوبة عن الكبائر دون الصغائر فأمر ممكن لأنه يعلم أن الكبائر أعظم عند الله وأجلب لسخط الله ومقته والصغائر أقرب إلى تطرق العفو إليها فلا يستحيل أن يتوب عن الأعظم ويتندم عليه كالذي يجني على أهل الملك وحرمه ويجني على دابته فيكون خائفاً من الجناية على الأهل مستحقراً للجناية على الدابة والندم بحسب استعظام الذنب واعتقاد كونه مبعداً عن الله تعالى. وهذا ممكن وجوده في الشرع فقد كثر التائبون في الأعصار الخالية ولم يكن أحد منهم معصوماً فلا تستدعي التوبة العصمة. والطبيب قد يحذر المريض العسل تحذيراً شديداً ويحذره السكر تحذيراً أخف منه على وجه يشعر معه أنه ربما لا يظهر ضرر السكر أصلاً فيتوب المريض بقوله عن العسل دون السكر فهذا غير محال وجوده وإن أكلهما جميعاً بحكم شهوته ندم على أكل العسل دون السكر. الثاني: أن يتوب عن بعض الكبائر دون بعض وهذا أيضاً ممكن لاعتقاده أن بعض الكبائر أشد وأغلظ عند الله كالذي يتوب عن القتل والنهب والظلم ومظالم العباد لعلمه أن ديوان العباد لا يترك وما بينه وبين الله يتسارع العفو إليه فهذا أيضاً ممكن كما في تفاوت الكبائر والصغائر لأن الكبائر أيضاً متفاوتة في أنفسها وفي اعتقاد مرتكبها ولذلك قد يتوب عن بعض الكبائر التي لا تتعلق بالعباد كما يتوب عن شرب الخمر دون الزنا مثلاً إذ يتضح له أن الخمر مفتاح الشرور وأنه إذا زال عقله ارتكب جميع المعاصي وهو لا يدري فبحسب رجح شرب الخمر عنده ينبعث منه خوف يوجب ذلك تركه في المستقبل وندماً على الماضي. الثالث: أن يتوب عن صغيرة أو صغائر وهو مصر على كبيرة يعلم أنها كبيرة كالذي يتوب عن الغيبة أو عن النظر إلى غير المحرم أو ما يجري مجراه وهو مصر على شرب الخمر فهو أيضاً ممكن ووجه إمكانه أنه ما من مؤمن إلا وهو خائف من معاصيه ونادم على فعله ندماً إما ضعيفاً وإما قوياً ولكن تكون لذة نفسه في تلك المعصية أقوى من ألم قلبه في الخوف منها لأسباب توجب ضعف الخوف من الجهالة والغفلة وأسباب توجب قوة الشهوة فيكون الندم موجوداً ولكن لا يكون ملياً بتحريك العزم ولا قوياً عليه فإن سلم عن شهوة أقوى منه بأن لم يعارضه إلا ما هو أضعف قهر الخوف الشهوة وغلبها وأوجب ذلك ترك المعصية وقد تشتد ضراوة الفاسق بالخمر فلا يقدر على الصبر عنه وتكون له ضراوة إما بالغيبة وثلب الناس والنظر إلى غير المحرم وخوفه من الله قد بلغ مبلغاً يقمع هذه الشهوة الضعيفة دون القوية فيوجب عليه جند الخوف انبعاث العزم للترك بل يقول هذا الفاسق في نفسه: إن قهر الشيطان بواسطة غلبة الشهوة في بعض المعاصي فلا ينبغي أن أخلع العذار وأرخي العنان بالكلية بل أجاهده في بعض المعاصي فعساني أغلبه فيكون قهري له في البعض كفارة لبعض ذنوبي ولو لم يتصور هذا لما تصور من الفاسق أن يصلي ويصوم ولقيل له إن كانت صلاتك لغير الله فلا تصح وإن كانت لله فاترك الفسق لله فإن أمر الله فيه واحد فلا يتصور أن تقصد بصلاتك التقرب إلى الله تعالى ما لم تتقرب إليه بترك الفسق وهذا محال بأن يقول لله تعالى على أمران ولي على المخالفة فيهما عقوبتان وأناملي في أحدهما بقهر الشيطان عاجز عنه في الآخر فأنا أقهره فيما أقدر عليه وأرجو بمجاهدتي فيه أن يكفر عن بعض ما عجزت عنه بفرط شهوتي فكيف لا يتصور هذا وهو حال كل مسلم إذ لا مسلم إلا وهو جامع بين طاعة الله ومعصيته ولا سبب له إلا هذا وإذا فهم هذا فهم أن غلبة الخوف للشهوة في بعض الذنوب ممكن وجودها وما الخوف إذا كان من فعل ماض أورث الندم والندم يورث العزم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الندم توبة " ولم يشترط الندم على كل ذنب وقال: " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " ولم يقل التائب من الذنوب كلها وبهذه المعاني تبين سقوط قول القائل إن التوبة عن بعض الذنوب غير ممكنة لأنها متماثلة في حق الشهوة وفي حق التعرض إلى سخط الله تعالى نعم يجوز أن يتوب عن شرب الخمر دون النبيذ لتفاوتهما في اقتضاء السخط ويتوب عن الكثير دون القليل لأن لكثرة الذنوب تأثيراً في كثرة العقوبة فيساعد الشهوة بالقدر الذي يعجز عنه ويترك بعض شهوته لله تعالى كالمريض الذي حذره الطبيب الفاكهة فإنه قد يتناول قليلها ولكن لا يستكثر منها فقد حصل من هذا أنه لا يمكن أن يتوب عن شيء ولا يتوب عن مثله بل لا بد وأن يكون ما تاب عنه مخالفاً لما بقي عليه إما في شدة المعصية وإما في غلبة الشهوة وإذا حصل هذا التفاوت في اعتقاد التائب تصور اختلاف حاله في الخوف والندم فيتصور اختلاف حاله في الترك فندمه على ذلك الذنب ووفاؤه بعزمه على الترك يلحقه بمن لم يذنب وإن لم يكن قد أطاع الله في جميع الأوامر والنواهي. فإن قلت هل تصح توبة العنين من الزنا الذي قارفه قبل طريان العنة فأقول: لا لأن التوبة عبارة عن ندم يبعث العزم على الترك فيما يقدر على فعله وما لا يقدر على فعله فقد انعدم بنفسه لا بتركه إياه ولكني أقول لو طرأ عليه بعد العنة كشف ومعرفة تحقق به ضرر الزنا الذي قارفه وثار منه احتراق وتحسر وندم بحيث لو كانت شهوة الوقاع به باقية لكانت حرقة الندم تقمع تلك الشهوة وتغلبها فإني أرجو أن يكون ذلك مكفراً لذنبه وما حيا عنه سيئته إذ لا خلاف في أنه لو تاب قبل طريان العنة ومات عقيب التوبة كان من التائبين وإن لم يطرأ عليه حالة تهيج فيها الشهوة وتتيسر أسباب قضاء الشهوة ولكنه تائب باعتبار أن ندمه بلغ مبلغاً أوجب صرف قصده عن الزنا لو ظهر قصده فإذن يستحيل أن تبلغ قوة الندم في حق العنين هذا المبلغ إلا أنه لا يعرفه من نفسه فإن كل من لا يشتهي شيئاً يقدر نفسه قادراً على تركه بأدنى خوف والله تعالى مطلع على ضميره وعلى مقدار ندمه فعساه يقبله منه بل الظاهر أنه يقبله. والحقيقة في هذا كله يرجع إلى ظلمة المعصية تنمحي عن القلب بشيئين أحدهما: حرقة الندم والآخر: شدة المجاهدة بالترك في المستقبل وقد امتنعت المجاهدة بزوال الشهوة ولكن ليس محالاً أن يقوى الندم بحيث يقوى على محوها دون المجاهدة ولولا هذا لقلنا إن التوبة لا تقبل ما لم يعش التائب بعد التوبة مدة يجاهد نفسه في عين تلك الشهوة مرات كثيرة وذلك مما لا يدل ظاهر الشرع على اشتراطه أصلاً. فإن قلت: إذا فرضنا تائبين أحدهما سكنت نفسه عن النزوع إلى الذنب والآخر بقي في نفسه نزوع إليه وهو يجاهدها ويمنعها فأيهما أفضل فاعلم أن هذا مما اختلف العلماء فيه فقال أحمد بن أبي الحواري وأصحاب أبي سليمان الداراني: إن المجاهد أفضل لأن له مع التوبة فضل الجهاد. وقال علماء البصرة: ذلك الآخر أفضل لأنه لو فتر في توبته كان أقرب إلى السلامة من المجاهد الذي هو في عرضة الفتور عن المجاهدة وما قاله كل واحد من الفريقين لا يخلو عن حق وعن قصور عن كمال الحقيقة.
والحق فيه أن الذي انقطع نزوع نفسه له حالتان: إحداهما أن يكون انقطاع نزوعه إليها بفتور في نفس الشهوة فقط فالمجاهد أفضل من هذا إذ تركه بالمجاهدة قد دل على قوة نفسه واستيلاء دينه على شهوته فهو دليل قاطع على قوة اليقين وعلى قوة الدين وأعني بقوة الدين قوة الإرادة التي تنبعث بإشارة اليقين وتقمع الشهوة المنبعثة بإشارة الشياطين فهاتان قوتان تدل المجاهدة عليهما قطعاً. وقول القائل إن هذا أسلم إذ لو فتر لا يعود إلى الذنب فهذا صحيح ولكن استعمال لفظ الأفضل فيه خطأ. وهو كقول القائل: العنين أفضل من الفحل لأنه في أمن من خطر الشهوة والصبي أفضل من البالغ لأنه أسلم والمفلس أفضل من الملك القاهر القامع لأعدائه لأن المفلس لا عدو له والملك ربما يغلب مرة وإن غلب مرات وهذا كلام رجل سليم القلب قاصر النظر على الظواهر غير عالم بأن العز في الأخطار وأن العلو شرطه اقتحام الأغرار بل كقول القائل: الصياد الذي ليس له فرس ولا كلب أفضل في صناعة الاصطياد وأعلى رتبة من صاحب الكلب والفرس لأنه آمن من أن يجمح به فرسه فتنكسر أعضاؤه عند السقوط على الأرض وآمن من أن يعضه الكلب ويعتدي عليه وهذا خطأ بل صاحب الفرس والكلب إذا كان قوياً عالماً بطريق تأديبهما أعلى رتبة وأحرى بدرك سعادة الصيد. الحالة الثانية أن يكون بطلان النزوع بسبب قوة اليقين وصدق المجاهدة السابقة إذ بلغ مبلغاً قمع هيجان الشهوة حتى تأدبت بأدب الشرع فلا تهيج إلا بالإشارة من الدين وقد سكت بسبب استيلاء الدين عليها فهذا أعلى رتبة من المجاهد المقاسي لهيجان الشهوة وقمعها وقول القائل: ليس لذلك فضل الجهاد قصور عن الإحاطة بمقصود الجهاد فإن الجهاد كان مقصوداً لعينه بل المقصود قطع ضراوة العدو حتى لا يستجرك إلى شهواته وإن عجز عن استجرارك فلا يصدك عن سلوك طريق الدين فإذا قهرته وحصلت المقصود فقد ظفرت وما دمت في المجاهدة فأنت بعد في طلب الظفر. ومثاله كمثال من قهر العدو واسترقه بالإضافة إلى من هو مشغول بالجهاد في صف القتال ولا يدري كيف يسلم. ومثاله أيضاً مثال من علم كلب الصيد وراض الفرس فهما نائمان عنده بعد ترك الكلب الضراوة والفرس الجماح بالإضافة إلى من هو مشغول بمقاساة التأديب بعد ولقد نزل في هذا فريق فظنوا أن الجهاد هو المقصود الأقصى ولم يعلموا أن ذلك طلب للخلاص من عوائق الطريق. وظن آخرون أن قمع الشهوات وإماطتها بالكلية مقصود حتى جرب بعضهم نفسه فعجن عنه فقال: هذا محال فكذب بالشرع وسلك سبيل الإباحة واسترسل في إتباع الشهوات. وكل ذلك جهل وضلال وقد قررنا ذلك في كتاب رياضة النفس من ربع المهلكات. فإن قلت: فما قولك في تائبين أحدهما نسي الذنب ولم يشتغل بالتفكر فيه والآخر جعله نصب عينه ولا يزال بتفكر فيه ويحترق ندماً عليه فأيهما أفضل فاعلم أن هذا أيضاً قد اختلفوا فيه فقال بعضهم: حقيقة التوبة أن تنصب ذنبك بين عينيك وقال آخر: حقيقة التوبة أن تنسى ذنبك وكل واحد من المذنبين عندنا على حق ولكن بالإضافة إلى حالين. وكلام المتصوفة أبداً يكون قاصراً فإن كل واحد منهم أن يخبر عن حال نفسه فقط ولا يهمه حال غيره فتختلف الأجوبة لاختلاف الأحوال وهذا نقصان بالإضافة إلى الهمة والإرادة والجد حيث يكون صاحبه مقصور النظر على حال نفسه لا يهمه أمر غيره إذ طريقه إلى الله نفسه ومنازله وأحواله. وقد يكون طريق العبد إلى الله العلم فالطرق إلى الله تعالى كثيرة وإن كانت مختلفة في القرب والبعد والله أعلم بمن هو أهدى سبيلاً مع الاشتراك في أصل الهداية فأقول: تصور الذنب وذكره والتضجع عليه كمال في حق المبتدئ لأنه إذا نسيه لم يكثر احتراقه فلا تقوى إرادته وانبعاثه لسلوك الطريق لأن ذلك يستخرج منه الحزن والخوف الوازع عن الرجوع إلى مثله فهو بالإضافة إلى الغافل كمال ولكنه بالإضافة إلى سالك الطريق نقصان فإنه شغل مانع عن سلوك الطريق. بل سالك الطريق ينبغي أن لا يعرج على غير السلوك فإن ظهر له مبادئ الوصول وانكشف له أنوار المعرفة ولوامع الغيب استغرقه ذلك ولم يبق فيه متسع للالتفات إلى ما سبق من أحواله وهو الكمال بل لو عاق المسافر عن الطريق إلى بلد من البلاد نهر حاجز طال تعب المسافر في عبوره مدة من حيث إنه كان قد خرب جسره من قبل ولو جلس على شاطئ البحر بعد عبوره يبكي متأسفاً على تخريبه الجسر كان هذا مانعاً آخر اشتغل به بعد الفراغ من ذلك المانع نعم إن لم يكن الوقت وقت الرحيل بأن كان ليلاً فتعذر السلوك أو كان على طريق أنهار وهو يخاف على نفسه أن يمر بها فليطل بالليل بكاؤه وحزنه على تخريب الجسر ليتأكد بطول الحزن عزمه على أن لا يعود إلى مثله فإن حصل له من التلبية ما وثق بنفسه أنه لا يعود إلى مثله فسلوك الطريق أولى به من الاشتغال بذكر تخريب الجسر والبكاء عليه وهذا لا يعرفه إلا من عرف الطريق والمقصد والعائق وطريق السلوك - وقد أشرنا إلى تلويحات منه في كتاب العلم وفي ربع المهلكات - بل نقول شرط دوام التوبة أن يكون كثير الفكر في النعيم في الآخرة لتزيد رغبته ولكن إن كان شاباً فلا ينبغي أن يطيل فكره في كل ماله نظير في الدنيا كالحور والقصور فإن ذلك الفكر ربما يحرك رغبته فيطلب العاجلة ولا يرضى بالآجلة بل ينبغي أن يتفكر في لذة النظر إلى وجه الله تعالى فقط فذلك لا نظير له في الدنيا. فكذلك تذكر الذنب قد يكون محركاً للشهوة فالمبتدئ أيضاً قد يستضر به فيكون النسيان أفضل له عند ذلك. ولا يصدنك عن التصديق بهذا التحقيق ما يحكى لك من بكاء داود ونياحته عليه السلام فإن قياسك نفسك على الأنبياء قياس في غاية الاعوجاج لأنهم قد ينزلون في أقوالهم وأفعالهم إلى الدرجات اللائقة بأممهم فإنهم ما بعثوا إلا لإرشادهم فعليهم التلبس بما تنتفع أممهم بمشاهدته وإن كان ذلك نازلاً عن ذروة مقامهم فلقد كان في الشيوخ من لا يشير على مريده بنوع رياضة إلا ويخوض معه فيها وقد كان مستغنياً عنها لفراغه عن المجاهدة وتأديب النفس تسهيلاً للأمر على المريد. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " أما إني لا أنسى ولكني لأشرع " وفي لفظ " إنما أسهو لأسن ". ولا تعجب من هذا فإن الأمم في كنف شفقة الأنبياء كالصبيان في كنف شفقة الآباء وكالمواشي في كنف الرعاة. أما ترى الأب إذا أراد أن يستنطق ولده الصبي كيف ينزل إلى درجة نطق الصبي كما قال صلى الله عليه وسلم للحسن: " كخ كخ " لما أخذ تمرة من تمر الصدقة ووضعها في فيه وما كانت فصاحته تقصر عن أن يقول ارم هذه التمرة فإنها حرام ولكنه لما علم أنه لا يفهم منطقة ترك الفصاحة ونزل إلى لكنته. بل الذي يعلم شاة أو طائراً يصوت به رغاءً أو صفيراً تشبهاً بالبهيمة والطائر تلطفاً في تعليمه. فإياك أن تغفل عن أمثال هذه الدقائق فإنها مزلة أقدام العارفين فضلاً عن الغافلين. نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه.
|